فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [18].
{ذَلِكُمْ} إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. ومحله الرفع، أي: المقصود أو الأمر ذلكم.
وقوله: {وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} معطوف عليه، أي: مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي: أن المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين.
قال ابن كثير: هذا بشارة أخرى، مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنه في تبار ودمار، أي: وقد وجد المخبر على وفق الخبر، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [19].
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} خطاب للمشركين، أي: إن تطلبوا الفتح، أي: القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم القضاء بما سألتم.
روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم، وصححه، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال، حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحمِ وآتانا بما لا نعرفه، فأحِنْهُ- أي: فأهلكه- الغداة، فكان المستفتِحَ.
وعن السّدّي، أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر: أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبليتين، فقال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} الآية.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية، قيل: في هذا الخطاب تهكم بهم، يعني في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة. كذا في العناية.
وهو مبني على أن الفتح بمعنى النصر، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء. وبهما فسرت الآية أيضاً.
{وَإِن تَنتَهُواْ} أي: عن الكفر وعداوة الرسول {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: في الدنيا والآخرة {وَإِن تَعُودُواْ} أي: لمحاربة الرسول: {نَعُدْ} أي: لنصره عليكم {وَلَن تُغْنِيَ} أي: تدفع {عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بالنصر. قرئ بكسر {إن} استئنافاً، وفتحها، على تقدير اللام.
تنبيه:
جُوِّز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} للمؤمنين، أي: إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم، فقد حصل لكم ذلك، فشكروا ربكم، والزموا طاعته.
وقوله تعالى: {إن تَنتَهُواْ} أي: عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق}، فقال تعالى: {وَإِنْ تَنْتَهُوا}
عن مثله-: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ} إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار، وتهييج العدوّ؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة، وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة، إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم.
وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي.
قال البيضاوي: ويؤكده الآية بعدُ، فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول، والنهي عن الإعراض عنه، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [20].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: تعرضوا عنه بمخالفة أمره: {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} أي: القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته.

.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [21].
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} أي: ادعوا السماع {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي: سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون.
فالمنفي سماع خاص، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً، بجعل سماعهم بمنزلة العدم. وقيل: السماع عن التصديق.
قال الزمخشري: والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور، من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كَلاَ تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم، مبالغة في التحذير، وتقديراً للنهي، بقوله:

.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [22].
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ} أي: ما يدب على الأرض، أو شر البهائم: {عِندَ اللّهِ الصُّمُّ} أي: عن سماع الحق {الْبُكْمُ} أي: عن النطق به {الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} أي: لا يفهمونه، جعلهم تعالى من جنس البهائم، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وفي ذكرهم في معرض التشبيه، بهذا الأسلوب، غاية في الذم.
وقد كثر في التنزيل، تشبيه الكافرين بنحو هذا، كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}، وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَل}.

.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [23].
وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ} أي: في هؤلاء الصم البكم {خَيْراً} صدقاً ورغبة، {لَّأسْمَعَهُمْ} أي: الحجج والمواعظ، سماع تفهم وتدبر، أي: لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين، أي: ولكن لم يعلم الله فيهم شيئاً من ذلك، لخلوّهم عنه بالمرة، فلم يسمعهم كذلك، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة، وإليه أشير بقوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} أي: ولو أسمعهم سماع تفهم، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية، لتولوا عما سمعوه من الحق.
{وَّهُم مُّعْرِضُونَ} أي: عن قبوله جحوداً وعناداً.
قال الرازي: كل ما كان حاصلاً، فإنه يجب أن يعلمه الله، فقدم علم الله بوجوده، من لوازم عدمه، فلا جرم حسُن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده.
تنبيه:
قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني، هكذا: لو علم فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا، ينتج: لو علم فيهم خيراً لتولوا، وفساده بيّن.
وأجيب: بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية، وهو ممنوع.
واعترض بأن هذا المنع، وإن صح في قانون النظر، إلا أنه خطأ في تفسير الآية، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود شرائط الإنتاج، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه.
وأجيب: بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس، لانتفاء شرط، لا أنه قياس فقد شرطه، كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضاً، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع، لعدم الخيرية فيهم، ولو وقع الإسماع، لا تحصل الخيرية فيهم، لعدم قابلية المحل. كذا في العناية.
وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياساً شرطياً، متحد الوسط، صحيح الإنتاج، بتقدير: لو علم فيهم خيراً في وقت، لتولوا بعده.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [24].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} الإستجابة: بمعنى الإجابة. قال:
وداعٍ دعا يا مَنْ يُجِيبُ إلى النِّدا ** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

يريد: فلم يجبه.
وقائله كعب بن سعد الغَنَوِي، والقصيدة في الأصمعيات رقم 14.
والمراد بها الطاعة والإمتثال، وإنما وحد الضمير في قوله: {دَعَاكُمْ}- أي: الرسول- لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى.
وقال الزمخشري: لأن استجابته صلى الله عليه وسلم، كاستجابته تعالى، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد.
وقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، قال عروة بن الزبير- فيما رواه ابن إسحاق- أي: للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقوّاكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وإنما سمي الجهاد حياة، لأن في وهن عدوّهم بسببه حياة لهم وقوة، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الدائمة، فيكون مجازاً مرسلاً، بإطلاق السبب على المسبب، أو استعارة. وقيل: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي: من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب، كما أن الجهل موته.
قال الشهاب: وإطلاق الحياة على العلم، والموت على الجهل استعارة معروفة، ذكرها الأدباء، وأهل المعاني. وأنشد الزمخشري لبعضهم:
لا تعجبنّ الجهولَ حُلَّتهُ ** فَذاك مَيْتٌ، وثَوبهُُ كَفَنُ

وقد ألمّ فيه بقول أبي الطيب، من قصيدته التي أولها:
أفاضلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ ** يخلوا من الهمِّ أخلاهُم من الفِطَنِ

والأظهر أن يُعنى بما يحييكم، ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة، فيدخل فيه ما تقدم وغيره.
تنبيه:
استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحداً وهو في الصلاة.
روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي، فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ} الآية.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} يحتمل وجوهاً من المعاني.
أحدهما: أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء، فيحول بينه وبين الكفر، إن أراد هدايته، وبينه وبين الإيمان، إن أراد ضلالته، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس، وصححه، وقاله غير واحد من السلف.
ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك».
فقيل: يا رسول الله! آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى، يقلبها».
رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس ولفظ مسلم:
«إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفها كيف شاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا إلى طاعتك». انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عَمْرو.
وفي رواية: «إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه»- رواه الإمام أحمد عن عائشة-.
وروي أيضاً مثله عن جابر وبلال، والنواس بن سمعان وأم سلمة، كما ساقه ابن كثير.
وعلى هذا المعنى، فالآية استعارة تمثيلية، لتمكنه من قلوب العباد، فيصرفها كيف يشاء، بما لا يقدر عليه صاحبها.
شبه بمن حال بين شخص ومتاعه، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه.
ثانيها: أنه حث على المبادرة إلى الطاعة، قبل حلول المنية، فمعنى يحول بينه وبين قلبه، يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهو التمكن من إخلاص القلب، ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليماً، كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله.
فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه، والذي به يعقل، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه.
ثالثها: أنه مجاز عن غاية القرب من العبد، لأن من فصل بن شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما، وانفصال أحدهما عن الآخر.
ويحول إما استعارة تبعية معناه يقرب، أو استعارة تمثيلية. وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال: الآية كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع، من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها.
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: فيجزيكم بأعمالكم.